كان خليل في الثامنة من عمره عندما أكدت ملامحه فعلا على انه مسخ بشري فعينه اليسرى تبدو بيضاء تماماً وأحد أذنيه أكبر من الأخرى ولم ينبت الشعر في رأسه باستثناء بعض الشعرات المتفرقة هنا وهناك بالإضافة إلى ذلك فقد كان يعاني من زكام مزمن، إلا أن تلك الصفات الجسدية البشعة لم تحل دون وجود نفس طيبة لدى ذلك الطفل البائس ولكن ذلك للأسف لم يشفع له بين أطفال القرية الذين لاحقوه دائما بالكلمات اللاذعة التي تذكره دائماً بعاهته التي حاول دائماً أن يتناساها وأن يلتزم الصمت تجاه المضايقات التي يتعرض لها بين الحين والآخر ولكنه عبثاً كان يفعل فكلما خرج إلى الطريق عاد إلى البيت والدموع تملأ عينيه ، كبر خليل وكبرت إعاقته معه وظل يشعر بالعيون تلاحقه وبالأصابع تشير إليه والضحكات الساخرة التي كان يسمعها من وقت لآخر ولم يسمع ولا مرة كلمة شكر ولا إعجاب ، لم يكن يصغي سوى لصمت جدته العجوز التي كانت تقاسمه الدار التي خلفها والداه قبل أن يرحلا معاً دون رجعة في حادث سير وهو في الرابعة من عمره حيث تولت جدته أمر تربيته ولكنها كانت وطيلة فترة تربيتها له وإعالته من عملها بالتطريز الذي بدأ يقل كلما تقدمت بالسن كانت تكتفي بالصمت عند كل مضايقة كان يتعرض لها خليل وذلك لأنها كانت تعرف بأنه يمتلك حساسية عالية تجعله لا يقبل أن يواسيه إنسان على قدر لم يختاره بنفسه ،بالرغم من كل المضايقات فقد واظب خليل على الذهاب إلى المدرسة حتى دخل إلى الثانوية العامة وهنا بدأت معاناته الكبرى فقد كانت المدرسة مختلطة وكان يرى حرص الطلاب و الطالبات على الظهور بأجمل حلة والمحاولة الدائمة من كلا الطرفين للفت انتباه الآخر وكم كان يؤلمه منظر التسريحات المختلفة و العيون الملونة ولكنه يكتفي كعادته بالصمت ، لم يكمل خليل المرحلة الثانوية وخرج في بداية الصف الثالث الثانوي تحت وطأة الفقر والألم اللذين استبدا به كلما أصبح أكثر نضجاً فجدته لم تعد تستطيع العمل فكان لا بد له من أن يعمل ليعيل نفسه ويعيل جدته، أصبح عمره سبعة عشر عاما وأصبح يملك جسدا قويا وبنية ضخمة استغلهما في العمل ، كان خليل يعمل بجد وكان مديح رب العمل له يزيده ألما فطالما قال له أنت رغم وضعك أفضل الجميع أكان عليه أن يذكره بوضعه قبل ان يمتدحه فكرخليل بذلك ملياً أليس الأحرى به لو ظل صامتاً كما تفعل جدته على ان يمتدحه بهذه الطريقة ، أراد خليل وبإصرار ان ينظر أهل القرية إلى طيبته وعزة نفسه ولكن ويا للأسف فقد كان الناس يأخذون بالظاهر ، فكر خليل بالأمر ولمعت في ذهنه فكرة ربما أرضت حاجته إل أن تقدر إنسانيته بناء على ما يحمله في داخله من قيم ومبادئ ، وفي ذات مساء اشترى خليل ثياباً تنكرية وأصبح يشتري بالفائض من مرتبه اليومي بعض الحاجيات الضرورية وينتظر الساعة التي ينام فيها أهل القرية ويقصد بيوت الفقراء ليضع لهم بعض المساعدات ثم يعود إلى بيته قبل أن يراه أحد ، كم كانت سعادة خليل كبيرة عندما كان يسمع بالرجل الخفي النبيل الذي يساعد الفقراء دون مقابل وكم كان سعيدا عندما سمع أن حياة أجمل فتاة في القرية أبدت إعجابها بهذا الفارس الشهم وتمنت لو تراه كي تتعرف على هذا الإنسان الرائع . ظن خليل أن الناس قد يغفروا له سوء مظهره عندما يعرفون أنه هو ذات الفارس وقرر أن يعلم السيد أحمد شعلان مختار القرية بأنه هو نفسه ذلك البطل ولكنه تردد وقال بينه وبين نفسه ربما لم يصدقني ..ثم عاد ليسأل نفسه ماذا لو نسب أحد شبان القرية هذا الفعل لنفسه ياإلهي يجب أن يعلم الجميع بأنني أنا هو فارس الليل ولكن كيف السبيل إلى ذلك ، بعد تفكير طويل توصل خليل إلى قرار وقال محدثاً نفسه : نعم سأري وجهي لآخر بيت أقدم له المساعدة ، وفي اليوم التالي حمل خليل أشياءه ووزعها كما خطط لها وبقي بيت واحد تسكنه أرملة مع بناتها الثلاث ، تقدم خليل من باب البيت وطرق الباب فردت عليه أسماء البنت الكبرى :من الطارق ، أجاب خليل إنه أنا فارس الليل
أسماء : ياإلهي ..أمي !.أمي.! إنه الإنسان الشهم الذي يقدم لنا المساعدة منذ أكثر من شهر
الأم : افتحي الباب بسرعة لنتعرف على هذا الإنسان لرائع
فتحت أسماء الباب فإذا بشاب ضخم الجثة يضع قناعاً على وجهه وقبعة على رأسه ، أعطاها خليل الأشياء التي كان يحملها وقال بلهجة الواثق من نفسه: ألا تريدي يا أسماء أن تعرفي من هو الفارس النبيل .
أسماء: نعم بالطبع فهذه أمنيتي وأمنية أهل القرية جميعاً
وما إن كشف خليل عن وجهه حتى صاحت أسماء مذعورة و أغمي عليها وهنا أسرعت الأم إلى الباب فوجدت خليل يقف أمام الباب فصرخت في وجهه : من أنت أيها المسخ الحقير حتى تقدم لنا المساعدة .. ما كان ناقصنا غير خليل الأجدب ..تسمر خليل في مكانه للحظات وأدار ظهره و عاد إلى البيت وهو يلوم نفسه لأنه كشف حقيقة نفسه . وفي اليوم التالي شاع الخبر في القرية أن خليل الأجدب يدعي بأنه فارس الليل وكم كان ألمه شديداً عندما صادف في طريق ذهابه إلى العمل جمعاً من الناس وقد علا صوت احدهم قائلاً : إذا كان خليل الأجدب هو فعلاً فارس الليل سأعيد له جميع الأشياء التي أعطاني إياها ولكن ذلك مستحيل فأنا وإن رأيته بأم عيني لن أصدق فذلك الإنسان الكريم الشهم أسمى من ان يكون خليل الأجدب ، حزن خليل جدا لما سمع ولم يعد يذهب إلى العمل ولا حتى يخرج من البيت ونتيجة لذلك انقطعت المساعدات عن فقراء القرية وبعد عشرة أيام من انقطاع المساعدات طرق باب خليل وعندما فتح خليل الباب فوجئ بجمع كبير من الناس وقد انهالوا عليه بالشتائم والسخرية يتقدمهم السيد أحمد شعلان مختار القرية الذي بدأ الحديث عندما سكت الجميع قائلاً : أيها القميء لقد منعت وصول المساعدات إلى فقراء القرية بادعائك أنك أنت فارس الليل النبيل فلقد أصبت ذلك البطل بالخزي والعار عندما نسبت بطولته لنفسك ، كيف له بعد تلك اللحظة أن يرضى بأن يشبه بمسخ حقير مثلك ، اسمع عليك أن تغادر هذه القرية وإلا .... ،قال المختار هذه الكلمات وأدار ظهره ليتبعه الجميع ، بقي خليل واقفاً في الباب و الدموع تملأ عينيه وبعد أن غاب الجمع عن نظره أغلق خليل الباب وعاد يشكو همه لجدته التي اكتفت كعادتها بالصمت ولا شيئ سوى الصمت .